كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قرأ حمزّة، والكسائي: {ما لها من فواق} بضم الفاء، وقرأ الباقون بفتحها.
قال الفراء، وأبو عبيدة: الفواق بفتح الفاء: الراحة، أي: لا يفيقون فيها كما يفيق المريض، والمغشيّ عليه، وبالضم الانتظار {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب قالوا هذه المقالة استهزاء، وسخرية، والقط في اللغة: النصيب، من القط، وهو: القطع، وبهذا قال قتادة، وسعيد بن جبير، قال الفراء: القط في كلام العرب: الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك: قط.
قال أبو عبيدة، والكسائي: القط: الكتاب بالجوائز، والجمع القطوط، ومنه قول الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ** بغبطته يعطي القطوط ويأفق

ومعنى يأفق: يصلح، ومعنى الآية: سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب، وهو مثل قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} [الحج: 47].
وقال السدّي: سألوا ربهم: أن يمثل لهم منازلهم من الجنة، ليعلموا حقيقة ما يوعدون به، وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى: عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن جبير، والسدّي.
وقال أبو العالية، والكلبي، ومقاتل: لما نزل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25] قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا، فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب.
ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال: {اصبر على مَا يَقُولُونَ} من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها.
وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
{واذكر عَبْدَنَا داود ذَا الأيد} لما فرغ من ذكر قرون الضلالة، وأمم الكفر، والتكذيب، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يسمعه زاد في تسليته، وتأسيته بذكر قصة داود، وما بعدها.
ومعنى {اذكر عَبْدَنَا داود} اذكر قصته، فإنك تجد فيها ما تتسلى به، والأيد: القوّة، ومنه رجل أيد، أي: قويّ، وتأيد الشيء: تقوّى، والمراد: ما كان فيه عليه السلام من القوّة على العبادة.
قال الزجاج: وكانت قوّة داود على العبادة أتمّ قوّة، ومن قوّته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان يصلي نصف الليل، وكان لا يفرّ إذا لاقى العدّو، وجملة {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل لكونه ذا الأيد، والأوابّ: الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قويًا في دينه.
وقيل: معناه: كلما ذكر ذنبه استغفر منه، وناب عنه، وهذا داخل تحت المعنى الأوّل، يقال: آب يؤوب: إذا رجع {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق} أيّ: يقدّسن الله سبحانه، وينزهنه عما لا يليق به.
وجملة: {يُسَبّحْنَ} في محل نصب على الحال، وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان، والمعجزة، وهو: تسبيح الجبال معه.
قال مقاتل: كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال.
وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دويّ حسن، فهذا معنى: تسبيح الجبال، والأوّل أولى.
وقيل: معنى: {يُسَبّحْنَ} يصلين، و{مَعَهُ} متعلق بسخرنا.
ومعنى {بالعشى والإشراق} قال الكلبي: غدوة وعشية، يقال: أشرقت الشمس: إذا أضاءت، وذلك وقت الضحى.
وأما شروقها، فطلوعها.
قال الزجاج: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت.
{والطير مَحْشُورَةً} معطوف على الجبال، وانتصاب {محشورة} على الحال من الطير، أي: وسخرنا الطير حال كونها محشورة، أي: مجموعة إليه تسبح الله معه.
قيل: كانت تجمعها إليه الملائكة.
وقيل: كانت تجمعها الريح {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} أي: كل واحد من داود، والجبال، والطير رجاع إلى طاعة الله، وأمره، والضمير في له راجع إلى الله عزّ وجلّ.
وقيل: الضمير لداود، أي: لأجل تسبيح داود مسبح، فوضع أوّاب موضع مسبح، والأوّل أولى.
وقد قدّمنا أن الأوّاب: الكثير الرجوع إلى الله سبحانه {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} قوّيناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه وإلقاء الرعب منه في قلوبهم.
وقيل: بكثرة الجنود {وءاتيناه الحكمة وَفَصْلَ الخطاب} المراد بالحكمة: النبوّة، والمعرفة بكل ما يحكم به.
وقال مقاتل: الفهم، والعلم.
وقال مجاهد: العدل.
وقال أبو العالية: العلم بكتاب الله.
وقال شريح: السنة.
والمراد بفصل الخطاب: الفصل في القضاء، وبه قال الحسن، والكلبي، ومقاتل.
وحكى الواحدي عن الأكثر: أن فصل الخطاب: الشهود، والإيمان؛ لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذا.
وقيل: هو: الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} لما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة له لما فيها من الأخبار العجيبة.
قال مقاتل: بعث الله إلى داود ملكين، جبريل، وميكائيل؛ لينبهه على التوبة، فأتياه، وهو في محرابه.
قال النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم ها هنا الملكان، والخصم مصدر يقع على الواحد، والاثنين، والجماعة.
ومعنى {تَسَوَّرُواْ المحراب} أتوه من أعلى سوره، ونزلوا إليه، والسور: الحائط المرتفع، وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهم اثنين، نظرًا إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع.
ومنه قول الشاعر:
وخصم غضاب قد نفضت لحاهم ** كنفض البراذين العراب المخاليا

والمحراب: الغرفة، لأنهم تسوروا عليه، وهو فيها، كذا قال يحيى بن سلام.
وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد.
وقيل: إنهما كانا إنسيين، ولم يكونا ملكين، والعامل في {إذ} في قوله: {إِذْ دَخَلُواْ} النبأ، أي: هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم؟ وبهذا قال ابن عطية، ومكي، وأبو البقاء.
وقيل: العامل فيه أتاك.
وقيل: معمول للخصم.
وقيل: معمول لمحذوف، أي: وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم.
وقيل: هو معمول لتسوروا.
وقيل: هو بدل مما قبله.
وقال الفراء: إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى: لما {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} وذلك لأنهما أتياه ليلًا في غير وقت دخول الخصوم، ودخلوا عليه بغير إذنه، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس.
قال ابن الأعرابي: وكان محراب داود من الامتناع بالارتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة، وجملة: {قَالُواْ لاَ تَخَفْ} مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قالوا لداود لما فزع منهم؟ وارتفاع {خَصْمَانِ} على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: نحن خصمان، وجاء فيما سبق بلفظ الجمع، وهنا بلفظ التثنية، لما ذكرنا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد، والمثنى، والمجموع، فالكل جائز.
قال الخليل: هو كما تقول: نحن فعلنا كذا: إذا كنتما اثنين.
وقال الكسائي: جمع لما كان خبرًا، فلما انقضى الخبر، وجاءت المخاطبة أخبر الاثنان عن أنفسهما، فقالا: خصمان، وقوله: {بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} هو على سبيل الفرض، والتقدير، وعلى سبيل التعريض؛ لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان.
ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق، ونهياه عن الجور، فقالا: {فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ} أي: لا تجر في حكمك، يقال: شط الرجل، وأشط شططًا، وإشطاطًا: إذا جار في حكمه.
قال أبو عبيد: شططت عليه، وأشططت أي: جرت.
وقال الأخفش: معناه: لا تسرف، وقيل: لا تفرط، وقيل: لا تمل.
والمعنى متقارب، والأصل فيه البعد، من شطت الدار: إذا بعدت.
قال أبو عمرو: الشطط مجاوزة القدر في كل شيء {واهدنا إلى سَوَاء الصراط} سواء الصراط: وسطه.
والمعنى: أرشدنا إلى الحق، واحملنا عليه.
ثم لما أخبراه عن الخصومة إجمالًا شرعًا في تفصيلهما، وشرحها، فقالا: {إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} المراد بالأخوة هنا: أخوة الدين، أو الصحبة، والنعجة هي: الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش: نعجة {وَلِى نَعْجَةٌ واحدة} قال الواحدي: النعجة البقرة الوحشية، والعرب تكني عن المرأة بها، وتشبه النساء بالنعاج من البقر.
قرأ الجمهور: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} بكسر التاء الفوقية.
وقرأ الحسن، وزيد بن علي بفتحها.
قال النحاس: وهي: لغة شاذة، وإنما عنى ب {هذا} داود؛ لأنه كان له تسع وتسعون امرأة، وعنى بقوله: {ولي نعجة واحدة} أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود كما سيأتي بيان ذلك {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي: ضمها إليّ، وانزل لي عنها حتى أكفلها، وأصير بعلًا لها.
قال ابن كيسان: اجعلها كفلي، ونصيبي {وَعَزَّنِى في الخطاب} أي: غلبني، يقال: عزه يعزه عزًا: إذا غلبه.
وفي المثل من عزَّ بزَّ أي: من غلب سلب، والاسم العزة: وهي: القوة.
قال عطاء: المعنى: إن تكلم كان أفصح مني.
وقرأ ابن مسعود، وعبيد بن عمير: {وعازني في الخطاب} أي: غالبني من المعازة، وهي: المغالبة {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} أي: بسؤاله نعجتك؛ ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول، واللام هي: الموطئة للقسم، وهي وما بعدها جواب للقسم المقدر.
وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه، ولم يكن معه غيرها.
ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الاعتراف من الآخر.
قال النحاس: ويقال: إن خطيئة داود هي: قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت {وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ الخلطاء} وهم: الشركاء، واحدهم خليط: وهو المخالط في المال {لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} أي: يتعدى بعضهم على بعض، ويظلمه غير مراع لحقه {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فإنهم يتحامون ذلك، ولا يظلمون خليطًا، ولا غيره {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} أي: وقليل هم، و{ما} زائدة للتوكيد، والتعجيب.
وقيل: هي موصولة، و{هم} مبتدأ، و{قليل} خبره {وَظَنَّ داود أَنَّمَا فتناه} قال أبو عمرو، والفراء: ظن يعني: أيقن.
ومعنى {فتناه} ابتليناه، والمعنى: أنه عند أن تخاصما إليه، وقال ما قال علم عند ذلك أنه المراد، وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته.
قال الواحدي: قال المفسرون: فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه، فضحك، فعند ذلك علم داود بما أراده.
قرأ الجمهور: {فتناه} بالتخفيف للتاء، وتشديد النون.
وقرأ عمر بن الخطاب، والحسن، وأبو رجاء بالتشديد للتاء، والنون، وهي: مبالغة في الفتنة.
وقرأ الضحاك: {افتناه} وقرأ قتادة، وعبيد بن عمير، وابن السميفع: {فتناه} بتخفيفهما، وإسناد الفعل إلى الملكين، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو {فاستغفر رَبَّهُ} لذنبه {وَخَرَّ رَاكِعًا} أي: ساجدًّا.
وعبر بالركوع عن السجود، قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود، فإن السجود هو: الميل، والركوع هو: الانحناء، وأحدهما يدخل في الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة.
ثم جاء في هذا على تسمية أحدهما بالآخر.
وقيل: المعنى للسجود راكعًا، أي: مصليًا.
وقيل: بل كان ركوعهم سجودًا.
وقيل: بل كان سجودهم ركوعًا {وَأَنَابَ} أي: رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه.
وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له، وتاب عنه على أقوال: الأول: أنه نظر إلى امرأة الرجل التي أراد أن تكون زوجة له، كذا قال سعيد بن جبير، وغيره.
قال الزجاج: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها، وصارت الأولى له، والثانية عليه.
القول الثاني: أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة.
الثالث: أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها.
الرابع: أن أوريا كان خطب تلك المرأة، فلما غاب خطبها داود، فزوّجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا، فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها.
الخامس: أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء، وإن صغرت، فهي عظيمة.
السادس: أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا.
وأقول: الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضًا لداود عليه السلام: أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها، ويضمها إلى نسائه، ولاينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء، فقد نبهه الله على ذلك، وعرض له بإرسال ملائكته إليه، ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه، ويتوب منه، فاستغفر وتاب.
وقد قال سبحانه: {وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] وهو أبو البشر، وأوّل الأنبياء، ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه.
ثم أخبر سبحانه: أنه قبل استغفاره، وتوبته قال: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك} أي: ذلك الذنب الذي استغفر منه.